[center]السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قدّر الله عز وجل على بني آدم أن يوجدوا في هذه الحياة ليختبرهم اختبارا
تقوم به الحجة عليهم فيظهر شكرهم وكفرهم، وفي ذلك تحقيقٌ لسنّة الابتلاء
التي أرادها الباري لعباده وبيّنها في كتابه الكريم: { الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا} (تبارك:2).
وهذا الابتلاء متحقّق من خلال مرحلتين متباينتين قدّر الله تبارك وتعالى
لكلٍ منهما طبيعة خاصّة بها، أما الدنيا فهي محدودة وفانية، وأما الآخرة
فدائمة وباقية، والدنيا ممر، والآخرة مستقرّ.
ورحلة الخليقة بينهما طويلة وشاقّة، فاقتضت أن يكون بين محطّتي الدنيا
والآخرة مرحلة وسط هي أشدّ التصاقاً بالثانية منهما وممهّدةٌ لها، وفيها
يتمكّن الخلق من رؤيةِ عوالم لم يكونوا قادرين على رؤيتها في الدنيا، كعالم
الملائكة بمختلف أنواعهم، وأن يمرّوا بأحوالٍ مختلفة، منها: رحلة الروح
إلى السماء، وتكريم أرواح المؤمنين، والتشديد على أرواح الكافرين، وعذاب
القبر ونعيمه، وأحوال الموتى بعد مفارقتهم للدنيا.
وحديثنا عن ذلك العالم الذي ليس فيه جوع ولا شبع، ولا نوم ولا استيقاظ، ولا
عمل ولا تحصيل، عالمٍ غريبٍ لا يمكن تصوّره، يُدفن أحدهم في القبر فيكون
ضيفاً في ذلك العالم ويُلبس من الجنة ويُرى منزله منها ويفسح له مد بصره،
فلا يشعر الأحياء بشيءٍ من ذلك، بينما يُدفن آخر فيضيق عليه قبره حتى تختلف
أضلاعه، ويفتح له بابٌ إلى جهنم فيأتيه من حرّها وسمومها، ولا يُدرك
الأحياء ما يصيبه.
ذلك هو عالم البرزخ، والذي أخبرنا عنه ربّنا في كتابه، وفصّله لنا رسوله
–صلى الله عليه وسلم- في سنّته، وذكر لنا من أحواله وأخباره، ولولا وروده
في الشرع ما علمنا عنه شيئاً، فإن العقل قد يهتدي بمنطقه ضرورة وجود حياةٍ
أخرى تكون باقيةً ودائمةً ليحصل فيها فصل القضاء ووردّ المظالم والجزاء على
الأفعال، كذلك الفطرة تقوم على ضرورة يوم الحساب، أما إدراك وجود عالم
البرزخ بكلّ تفصيلاته فالعقل لا يستقلّ بإدراكه ولا معرفة أحواله.
وقد ورد البرزخ في قوله تعالى: {كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} (المؤمنون:100)، ولأجل أن نفهم سرّ تسميته بالرزخ يلزمنا العودة إلى الأصل اللغوي للكلمة.
البرزخ لغةً ما بـين كل شيئين، أو هو الحاجز بين الشيئين، وقد جاء في التنزيل قوله تعالى: { مرج البحرين يلتقيان*بينهما برزخ لا يبغيان } (الرحمن:19-20) ومعناه الحاجز الخفيّ، ومثله قوله تعالى: { وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا } (الفرقان:53).
وبحسب الإطلاق الشرعيّ، فهو مصطلح يُعبّر عن أمدٍ ما بين الدنيا والآخرة
وعالمٍ خاصٍّ مباينٍ لهما، يَرِدُ عليه الخلق بعد الموت والفناء، وقد فسّره
الإمام الطبري بأنه حاجز يحجز بين الخلائق وبين الرجوع إلى الدنيا،
ويظلّون فيه إلى أن يُبعثوا من قبورهم، واعتبر أن البرزخ والحاجز والمهلة
متقاربات في المعنى، ويظهر من تعريفه ملاحظة مسألة الفصل القائمة في الحياة
البرزخيّة عما قبلها وما بعدها فلذلك عبّر عن البرزخ بالحاجز.
والحاصل أن البرزخ يفصل بين الموت والبعث، أو بين الدنيا والآخرة، أو بين
الموت والرجوع إلى الدنيا، وهو الإمهال إلى يوم القيامة، وكلام العلماء
وتعبيراتهم تدور حول هذه المعاني.
وعالم البرزخ له متعلّق بالدنيا والآخرة، فهو يبتديء من نهاية الدنيا:
أحوال المحتضر ونزع الروح، وينتهي ببداية الآخرة، وهو بعث الأموات للحساب
يوم القيامة.
وقد يُعبّر عن البرزخ بتسمية أخرى وهي القيامة الصغرى باعتبار أنه مقدّمةٌ
له، فكل من مات فقد قامت قيامته، وقد استدلّ العلماء لذلك بالحديث الذي
روته عائشة رضي الله عنها قالت: كان رجال من الأعراب جفاة، يأتون النبي -صلى الله عليه وسلم- فيسألونه: متى الساعة؟ فكان ينظر إلى أصغرهم فيقول: (إن يعش هذا لا يدركه الهرم حتى تقوم عليكم ساعتكم) متفق عليه.
قال ابن كثير : " والمراد انخرام قرنهم ،
ودخولهم في عالم الآخرة ، فإن من مات فقد دخل في حكم الآخرة، وبعض الناس
يقول : من مات فقد قامت قيامته ، وهذا الكلام بهذا المعنى صحيح ".
وللإمام ابن القيّم إطلاقٌ آخر، فالبرزخ عنده
معادٌ أوّل، وتفسيره أن الله عز وجل جعل لابن آدم معادين وبعثين يجزي
فيهما الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ، فالبعث الأول :
مفارقة الروح للبدن ، ومصيرها إلى دار الجزاء الأول، والبعث الثانى يوم
يرد الله الأرواح إلى أجسادها ويبعثها من قبورها إلى الجنة أو النار.
وعلى أية حال فإن للحياة البرزخيّة طبائع ومقاييس مختلفة تمام الاختلاف عن الحياة الدنيا.