بسم الله الرحمن الرحيم
خالد بن الوليد
(رضي الله عنة)
المقدمة
نتحدث باختصار عن تحركات خالد بن الوليد(رضي الله عنة) في فتح جنوب العراق؛ حيث بدأت الحملة في المحرم 12هـ، وقد بدأها خالد في مكان يُسَمَّى كاظمة، وانتصر المسلمون في موقعة ذات السلاسل في 12 من المحرم سنة 12هـ. ثم فتح خالد بن الوليد(رضي الله عنة) حصن الأُبلّة، وكان على رأس الفتح سويد بن قبّة، وكان هذا أيضًا في شهر المحرم. ثم انتقل خالد (رضي الله عنة) في حركة مفاجئة إلى شرق نهر دجلة حيث موقعة المذار، وقابل الجيوش القادمة من المدائن بقيادة قارن، وانتصر المسلمون في شرق دجلة في المعركة الوحيدة لسيدنا خالد بن الوليد(رضي الله عنة) شرقي نهر دجلة.
ثم علم بتقدم الجيوش الفارسية من الشمال بقيادة بهمن، وفي عمق العراق بقيادة الأندرزغر إلى الولجة، فترك سيدنا خالد المزار وتوجه ناحية الولجة لمقابلة أندرزغر وانتصر عليه. وهنا نذكر الكمين الذي أعده خالد بن الوليد للجيوش الفارسية، وتحققت للمسلمين نتيجة حاسمة في هذه الموقعة وكانت في شهر صفر سنة 12هـ. وعندما انتهى سيدنا خالد بن الوليد من موقعة الولجة علم بتجمع الجيوش الفارسية مع الجيوش العربية النصرانية في مكان يسمى (أُلَّيْس) على شاطئ نهر الفرات، وكان عددهم يقترب من مائة ألف؛ فتقدم سيدنا خالد بن الوليد (رضي الله عنة)مباشرة من الولجة إلى أُلَّيس، ودارت موقعة شديدة نذكر أنه قُتِلَ فيها سبعون ألف فارسي وعربي في نهر مجاور لنهر الفرات، وسمي هذا النهر نهر الدم بعد هذه الموقعة.
ثم تقدم سيدنا خالد بن الوليد (رضي الله عنة)إلى مدينة أَمْغِيشيا التي كانت قد خلت من سكانها؛ لأن معظم الجيش قد قُتِل في موقعة أُليس، حيث قُتِلَ منهم حوالي40 ألفًا، ففتحها خالد بن الوليد دون قتال وهدمها؛ لإيقاع الرعب في قلوب أهل فارس.
ثم تقدم ناحية الحيرة فأرسل له "آزَاذِبه" أمير فارس على الحيرة ابنه إلى (المقرّ) حتى يفتح الروافد الفرعية لنهر الفرات، ويسد مجرى النهر الرئيسي؛ كي لا تستطيع سفن سيدنا خالد السير من أَمْغِيشيا إلى الحيرة، وبالفعل نجح ابن آزاذبه في ذلك، فتقدم سيدنا خالد (رضي الله عنة)من أَمْغِيشيا إلى المقرِّ ليقابل ابن آزاذبه، والتقى معه في موقعة المقرّ، وانتصر عليه، وقتله خالد.
كانت موقعة المقرِّ في شهر ربيع الأول، ثم تقدم خالد من المقرِّ إلى الحيرة فوجد أن آزاذبه هذا قد هرب إلى المدائن؛ فحاصر الحيرة واستطاع أن يفتح حصونها بعد فترة من القصف الإسلامي للحصون، وتمَّ ذلك للمسلمين في شهر ربيع الأول أيضًا في 12 من ربيع الأول؛ فتكون هذه المعارك قد بدأت من كاظمة إلى الحيرة في حوالي شهرين، وانتصر سيدنا خالد بن الوليد (رضي الله عنة)على الفرس في كل هذه المعارك، وفُتِحت حصونُ الحيرةِ وصالح أهلها خالد بن الوليد (رضي الله عنة)على مائة وتسعين ألف درهم في السنة، ثم صالح خالد بن الوليد(رضي الله عنة) أهل "بانِقيا وباروسما" في الجزيرة ما بين دجلة والفرات على مليوني درهم في السنة؛ لأن هذه المنطقة كانت من المناطق الغنيِّة، ثم انتظر سيدنا خالد بن الوليد (رضي الله عنة)في الحيرة حوالي ثلاثة شهور دون قتال، ينتظر عياض بن غنم الذي كان يريد فتح دومة الجندل واستعصت عليه دومة الجندل؛ لشدة بأس الجيش الفارسي في دومة الجندل، ولشدة الحصون والقلاع الموجودة في هذه المنطقة، فلما تعسر على سيدنا عياض فتح دومة الجندل تقدم سيدنا خالد (رضي الله عنة)ليقوم بعمل عياض، فبدأ بفتح الأنبار. ونعلم أن الأنبار سُميت ذاتَ العيون؛ لأن جيش سيدنا خالد(رضي الله عنة) فقأ فيها عيون ألف من مقاتلي الأنبار، وفتح هذا الحصن في شهر رجب سنة 12هـ، ثم تقدم سيدنا خالد بن الوليد إلى "عين التمر" وانتصر فيها على الجيوش الفارسية المتحدة مع الجيوش العربية بقيادة عُقّة بن أبي عُقة، ونذكر أن سيدنا خالد انتصر على الجيش العربي أولاً في منطقة تُسمى الرمالية قبل أن يتقدم لعين التمر، ثم تقدم وفتح حصن التمر، ثم من عين التمر تعمق في الصحراء حتى يصل إلى دومة الجندل لمساعدة عياض بن غنم في فتح دومة الجندل، وقد ذكرنا أن المسافة بين الحيرة ودومة الجندل حوالي 500كم، وقد تمَّ له ذلك أيضًا في شهر رجب.
تحركات خالد بن الوليد لفتح العراق....
بعد أن تم فتح الأنبار وعين التمر ودومة الجندل -كل هذه البلاد والفتوح- في شهر رجب سنة 12هـ، وفي أثناء عودة خالد بن الوليد تجمعت الجيوش الفارسية في حُصَيِّد والخنافس فأرسل القعقاعُ بن عمرو -خليفة خالد بن الوليد على الحيرة- بعضَ الجيوش إلى حصيِّد والخنافس لمقابلة جيوش الفرس، ووصل خالد بن الوليد t إلى عين التمر واتخذها مقرًّا له، وأرسل بعض الجيوش لمساعدة الجيشين اللذين أرسلهما القعقاع بن عمرو إلى حصيد والخنافس، وانتصر الجيش الإسلامي في هذه الموقعة "حصيد" على الفرس وجمع الكثير من الغنائم، وتمَّ له ذلك في شهر شعبان سنة 12هـ. وعندما علم الجيش الفارسي في الخنافس بهزيمة الفرس في حصيد القريبة جدًّا منهم، انسحب من الخنافس، وتم للمسلمين فتحها دون قتال. ثم تواعد خالد بن الوليد والقعقاع بن عمرو وأبو ليلى بن فدكي السعدي على فتح المُصَيِّخ، وتم ذلك للمسلمين في شهر شعبان أيضًا.
ثم تقدم سيدنا خالد بن الوليد من المصيخ إلى شمال العراق حيث الثني والزُّمَيْل وانتصر المسلمون في موقعة "الثَّنِيّ" أيضًا؛ لأنهم حاصروها من ثلاث جهات، وكانت المعركة معركة ليلية، ثم تقدَّم في الليلة نفسِها إلى موقعة "الزميل" وفتحها سيدنا خالد بن الوليد أيضًا، ولم يفلت من الثني أو الزميل أحد من الفرس والعرب المشركين والنصارى في هذا المكان. وكان هذا كله في شهر شعبان.
ثم تقدم من الزميل إلى الرباط، ولكنه وجد أن الرباط قد خلت من سكانها عندما علمت بهزيمة الثني والزميل. ونعلم أن أرض الرباط هذه أرض رومية، تقع في الحدود الرومية وليس في فارس، أقصى شمال العراق، وهي على بعد أكثر من 800 كم من الحيرة. قطع سيدنا خالد بن الوليد هذه المسافة بهذا الطول إلى الرباط، وكان قد خرج من دومة الجندل في رجب ووصلها في شعبان.
ثم عاد سيدنا خالد بن الوليد (رضي الله عنة)من الرباط إلى الفراض واتخذها مقرًّا له، وبدأ في تنظيم الجيوش الإسلامية في المنطقة، وتوزيع الحاميات، وقضى فيها شهر رمضان وشوال ثم أتى ذو القعدة وتجمعت في هذه المنطقة الجيوش الفارسية مع الجيوش الرومانية مع نصارى العرب؛ لحرب المسلمين بقيادة سيدنا خالد في موقعة الفراض، فتمَّ لسيدنا خالد بن الوليد (رضي الله عنة)النصر في 15 من ذي القعدة سنة 12هـ، وقُتِلَ من المشركين مائةُ ألفِ قتيلٍ. بعد ذلك ترك سيدنا خالد بن الوليد (رضي الله عنة)الجيش في الفراض وأمرهم بالتوجه إلى الحيرة، وأمَّر عليهم سيدنا عاصم بن عمرو، وتوجه هو ومعه أصحابه من الفراض إلى مكة لقضاء الحج هذا العام.
وبالفعل تم له الحج دون أن يستأذن سيدنا أبا بكر الصديق(رضي الله عنة)، وعاد من مكة إلى الحيرة مع وصول آخر جندي من جنود المسلمين إلى الحيرة، ولم يعلم الجيش بغياب سيدنا خالد بن الوليد (رضي الله عنة)ولا بحجه إلا عندما رأوا سيدنا خالدًا وأصحابه مقصِّرين محلِّقين، ثم مكث في الحيرة شهرًا وأتاه خطاب سيدنا أبي بكر الصديق بأن ينتقل من الحيرة إلى اليرموك في الشام؛ لنجدة أمراء الشام الذين استعصت عليهم هزيمة الجيوش الرومانية الكثيفة الموجودة في اليرموك. وبالفعل قسم الجيش إلى نصفين: تسعة آلاف، وتسعة آلاف، وكانوا في البداية عشرين ألفًا، فيبدو أن قتلى المسلمين في هذه الفترة كانوا حوالي 2000 في كل الحروب التي اشترك فيها سيدنا عياض وسيدنا خالد، فكان المجموع 18 ألفًا، وبقي مع المثنى بن حارثة(رضي الله عنة) تسعة آلاف في الحيرة، وتوجه تسعة آلاف مع سيدنا خالد من الحيرة إلى الشام في عبورٍ كان عبورًا عظيمًا، فقد اجتاز شمال صحراء السماوة من العراق إلى الشام، ووصل خالد بن الوليد(رضي الله عنة) إلى الجيش الإسلامي الموجود في اليرموك.
وسوف نتحدث عن الجيش الإسلامي في اليرموك في فتوح الروم إن شاء الله.
استخلف خالد (رضي الله عنة)المثنى بن حارثة (رضي الله عنة)على 9000 من الجنود، وأخذ معه تسعة الآلاف الأخرى، ونائبَه القعقاع بن عمرو التميمي، وأخذ معه أيضًا ضرار بن الأزور (رضي الله عنة)وضرار بن الخطاب(رضي الله عنة)، وأصبح الموقف في الحيرة من الصعوبة بمكان.
النظرة التحليلة لعمليات خالد بن الوليد (رضي الله عنة )
كان فتح خالد بن الوليد(رضي الله عنة) للعراق بمنزلة مفاجأة من الطراز الأول من الناحية الاستراتيجية، فقد فعل ما لا يتوقعه العدو، وذلك في أكثر من جانب. ومن هذه الجوانب:1-
غزو العراق من الجنوب:
تقدم خالد (رضي الله عنة)لفتح العراق من منطقة كاظمة -كما ذكرنا- ثم صعد إلى الحيرة، وذلك بناء على خطة أبي بكر الصديق(رضي الله عنة) بأن يفتح خالد العراق من الجنوب وعياض بن غنم من الشمال، ثم التقاء الجيشين في فارس. فهذه هي المرة الأولى في التاريخ التي يُفتح فيها العراقُ من الجنوب، فمن المعروف أن منطقة جنوب العراق كلها منطقة مستنقعات من المياه، وبها أنهار فرعية كثيرة، وبها موانع طبيعية كثيرة، وكان يستعصي على أي جيش أن يجتاز هذه المنطقة نظرًا للصعوبة البالغة في ذلك، وكانت هذه المنطقة تمتلئ بالأشجار والغابات، وكانت تُسمى السواد، وكانت الأنهار تفيض كثيرًا ولم يكن بها سدود تمنع الماء، فكانت الفيضانات تغمر هذه الأراضي، هذا فضلاً عن الأشجار الكثيفة التي تغطي المنطقة بكاملها.
ومن ثَمَّ كان من الصعوبة بمكان أن يدخل أي جيش هذه المنطقة، أو يمرَّ منها ليصل إلى بلاد فارس العظيمة، أو إلى أي مكان من خلالها.
وفي التاريخ مرَّت كثير من الجيوش من الشرق إلى الغرب، ومن الغرب إلى الشرق، وكلها كانت تتجنب الدخول أو الاقتراب من هذه المنطقة؛ نظرًا للصعوبة البالغة والمشقة الكبيرة المترتبة على هذا الأمر.
ونذكر حروب الفرس مع الروم وهي كثيرة، وكانت كلها عبر شمال العراق، ونذكر قيام قمبيز -وكان ملكًا فارسيًّا- بفتح الشام والتوجه إلى فتح مصر وتمَّ له ذلك، وكان عن طريق شمال العراق. ونذكر أيضًا تقدم جيوش الإسكندر الأكبر من مصر إلى فتح الهند، فقد سار من شمال العراق -مع أنه كان من الأقرب له أن يسير من جنوب العراق- ونزل من فارس إلى الهند ليفتحها تجنبًا لخطورة المنطقة في شمال العراق. ولم يكن أهل فارس يتوقعون أن يأتيهم جيش من هذه المنطقة، ومن هنا كانت حصون فارس في هذه المنطقة ضعيفة، وليست كالحصون التي شيدوها في الشمال وفي الداخل. وقد تعود أهل فارس في هذه المنطقة في حالة حروبهم أن يتحصنوا داخل حصونهم القوية المنيعة، ولديهم من الطعام والشراب ما يكفيهم مدة كبيرة؛ حتى يملَّ الجيش المهاجم فيرحل عنهم.
ولكنهم لم يكونوا يعتقدون أن أحدًا سيأتيهم من هذه المنطقة التي يصعب اجتيازها على أقوى الجيوش، فكانت حصونهم فيها ضعيفة، وكان أقواها حصن الحيرة وحصن الأبلَّة وحصن المرأة وحصن الرجل وحصن الأنبار وحصن عين التمر وحصن دومة الجندل، وكانت كل هذه الحصون متفرقة، ولم يكن يربط بينها أسوار كما في داخل فارس، ولم يكن هناك خنادق إلا خندق سابور من كاظمة حتى الشمال، ولكنه كان مهجورًا لندرة الحاجة إليه، وخندق آخر كان محفورًا حول الأنبار، فكانت هذه المنطقة من المناطق الضعيفة.
كما كانت المنطقة الجنوبية لفارس -أيضًا- مواجهة لجزيرة العرب، وكان ما تعرفه فارس عن العرب هو أنهم مجموعة من الأعراب ليست لهم أهداف إلا أن يحصِّلوا بعض الطعام، وبعض المال الذي يكفيهم مئُونة العيش، ولم يكن يخطر على بال عربي أن يدخل في حرب مع دولة فارس، والعرب بالفعل لم يدخلوا مع فارس في حرب قبل ذلك، إلا موقعة واحدة في التاريخ تُسمَّى "ذا قارٍ" وفيها قامت مجموعة من القبائل العربية بقتال إحدى مناطق فارس الجنوبية قرب الحيرة، وتمَّ لهم بعض النصر وعادوا مباشرة إلى الجزيرة العربية ومكة، وكانت تلك الحملة الصغيرة ردًّا لشرفهم؛ نظرًا لأنه كانت هناك هجمة فارسية على بعض القبائل العربية القريبة من فارس.
ومن ثَمَّ كان فتح المسلمين للعراق من الجنوب مفاجأة استراتيجية لفارس.2-
قام خالد (رضي الله عنة)أيضًا بمفاجأة "تكتيكية" في أسلوب القتال، فكان مما فاجأ به الفارسيين مفاجأة الزمان، فقد كانت كل معاركه تتسم بالسرعة في الحركة، ولم يكن أهل فارس يعهدون هذه السرعة، فقد كانوا على تَعَوّد أن يستعدوا للجيوش التي تقدم عليهم، ويكون لديهم من الوقت -بعد علمهم بأمر هذه الجيوش- ما يكفيهم للاستعداد لها، لكنّ سيدنا خالدًا(رضي الله عنة) كان يمتلك من سرعة الحركة ما أدهش الجيوش الفارسية، فكل حروبه في العراق تتسم بسرعة الوقت، وكان يسبق الخبر. وعلى سبيل المثال في معركة الحصيد والخنافس لم يكن خالد ساعتها في الحيرة، لكن القعقاع أرسل جيشين إلى حصيد والخنافس كي يسيطرا على المنطقة قبل أن تصل الجيوش الفارسية إليه، وهي على بعد 100 كم من الحيرة، بينما وصل الخبر من المدائن إلى الأنبار إلى الحيرة ثم إلى حصيد والحنافس، وهذه المسافة تقترب من 400 كم إلى القعقاع، فأرسل جيوشه مسافة 400 كم أسرع من الجيوش الفارسية مسافة 100 كم فقط، وهذا يدل على سرعة حركة المسلمين والبطء الشديد للجيوش الفارسية في تلك الآونة.
موقعة الثني والزميل أيضًا وهما على بُعْدِ حوالي 150 كم من منطقة المصيخ، ومع هذا تقدم خالد من المصيّخ حتى الثني والزميل في وقت قصير جدًّا، فقد كانت موقعة المصيخ في 17 من شعبان، والثني والزميل 25 من شعبان، فكان بين الموقعتين ثمانية أيام فقط، وكانت الجيوش الإسلامية في الثني ليلاً وفي الزميل في الليلة نفسِها، وكان هذا شيئًا عجيبًا، وغريبًا أن يقوم الجيش بمعركة في مدينة، وفي الليلة نفسها يصل إلى الثانية قبل أن يصل خبر سقوط المدينة الأولى إلى المدينة الثانية، ويهزم كلا الجيشين في كلتا المدينتين!!
1- اختيار المكان الأنسب للقتال:
كان خالد بن الوليد (رضي الله عنة)يحسن اختيار المكان الذي يقاتل فيه، ونذكر هنا موقعة كاظمة، فقد كان في نية خالد التقدم إلى "الحفير" وهي منطقة تقع في غرب كاظمة، ولكن لما علم بذلك هرمز أمير الأبلّة وكاظمة توجه بجيشه إلى الحفير، فعلم بذلك خالد بن الوليد (رضي الله عنة)فغيّر مكان القتال، وعلى الفور انتقل إلى كاظمة واختار مكان القتال، وجاء الجيش الفارسي دون أن يكون مستعدًّا لقتال جيش خالد بن الوليد(رضي الله عنة).
واختار خالد أيضًا منطقة الولجة مكانًا للقتال، ولما علم بتقدم جيش بهمن جاذويه من المدائن إلى المذار في شرق نهر دجلة، وعلم بتقدم جيش الأندرزغر من المدائن إلى الولجة حتى يحيطه من الجنوب، فخشي أن تحيطه الجيوش الفارسية من الشمال ومن الجنوب، فانسحب بجيوشه من المذار إلى الولجة، واختار هو مكان المعركة "الولجة"، وتمَّ له النصر على جيش الأندرزغر، وتم له أيضًا النصر بعد ذلك في موقعة أُلَّيْس على بهمن جاذويه.
إذن فاختيار المكان كان إحدى المفاجآت التي حققها خالد بن الوليد (رضي الله عنة)في انتصاره على الجيوش الفارسية.
2- سلاح الكمائن:
لم يكن الفرس يعرفون الكمائن أو يسمعون عنها، وفي معركة الولجة خبّأ خالد (رضي الله عنة)جيشين كاملين لم يشتركا في القتال: أحدهما بقيادة بُسر بن أبي رهم، والآخر بقيادة سعيد بن مرّة، وعندما اشتد القتال وحمي الوطيس وكاد صبر الفريقين أن ينفد، أشار خالد إلى الجيوش المختبئة فالتفَّت حول الجيوش الفارسية في دائرة واحدة، وباغتتها من ظهرها حيث كانوا ينتظرون أن يمدّهم بهمن جاذويه بمدد، وكان انتصارًا كبيرًا للمسلمين.
3- الحيلة في الوصول إلى الأعداء:
كان لخالد أيضًا في فتح الأنبار مفاجأةٌ في الأسلوب الحربي الذي اتبعه، فقد كان حول الأنبار خندق عميق لا تستطيع الخيول أن تقفز من فوقه، ويقف هذا الخندق عائقًا أمام الجيش المسلم، لكن خالدًا (رضي الله عنة)بعد أن فُقِئَت من عيون أهل الأنبار ألف عين، قرر أن يجتاز هذا الخندق، فأمر بأن تُنْحَر ضعافُ الإبل وتوضع في الخندق وتمر عليها الخيول، ثم تقدم الجيش المسلم واقتلع باب الحصن، فاستسلم أهل الحصن والجيش الفارسي على الفور.
4- الحرب الليلية:
كانت الحروب في هذه الفترة وقبلها نهارًا فقط، وعندما يأتي الليل تنفصل الجيوش بشكل تلقائي عن بعضها، حتى يأتي فجر جديد فيبدأ القتال، ولم يكن قتال الليل محبَّذًا طيلة هذه العصور وحتى بعد عصر خالد (رضي الله عنة)بمئات السنين؛ لأن الجيوش لم تكن تستطيع معرفة الأماكن الآمنة وأماكن الجند، إلى أن جاء القرن التاسع عشر عندما اختُرِعَ "اللاسلكي".
لكن خالدًا استخدم أسلوبًا جديدًا على الفرس، لم يعهدوه ولم يعهده أحد من قبل، وهو أنه هاجمهم ليلاً -في موقعة المصيخ- ومن ثلاث جهات، وانتصر جيش المسلمين ولكن هرب منها بعض الفرس وبعض العرب ومنهم الهزيل بن عمران، وكرر خالد (رضي الله عنة)هذه التجربة في الثني -وكان قد استفاد بعد "المصيخ"- ولم يفلت من الثني أحد، وكان تحقيق النصر بنسبة 100 %.
وانتقل إلى منطقة الزُّمَيل في الليلة نفسها قبل طلوع الفجر، ولم يفلت منهم أحد.
5- مفاجآت خالد (رضي الله عنة)في التحركات التي تبدو غير منطقية:
فقد تحرك من "عين التمر" إلى دومة الجندل، والتي تبعد 500 كم من الحيرة، فكيف يُتَصَوَّر أن جيشًا يفتح كل هذه البلاد ويترك فيها الحاميات، ويتركها في مواجهة "المدائن" أقوى حصون فارس على مَرِّ التاريخ، والجيش الفارسي على مقربة منهم، ولكنه يترك كل هذا ويتوجه بجيشه بسرعة عجيبة ويساعد جيش عياض بن غنم في دومة الجندل، ثم يعود مرة أخرى إلى عين التمر، وهو مطمئن تمامًا على الحاميات القليلة الموجودة في هذه المنطقة، ويعدّ ما فعله خالد حدثًا مفاجئًا لا يتوقعه على الإطلاق الفرس الموجودون في دومة الجندل، والذين كانوا يحاربون عياضًا .
ومن التحركات غير المنطقية أيضًا موقعة المذار، وقد ذكرنا أن خالدًا (رضي الله عنة)كان يتقدم من موقعة الأُبلَّة، ثم عبر شط العرب إلى المذار ببعض السفن التي كانت معه، وتقابل مع جيش الفرس الذي كان بقيادة قارن، ولم يكن "قارن" هذا يتوقع مطلقًا -عندما وصل إلى المذار- أن يجد فيها جيش خالد بن الوليد(رضي الله عنة)، ولأنه قادم من شمال المدائن كان يتوقع أن يصل إلى شط العرب، ويعبر هو إلى خالد بن الوليد(رضي الله عنة)، ولكنه فوجئ بأن سيدنا خالد (رضي الله عنة)هو الذي عبر إلى منطقة المذار.
أيضًا من التحركات التي تبدو غير منطقية التوجه إلى الثني والزميل في أقصى شمال العراق، فكيف لجيش يسيطر على هذه المنطقة بكاملها أن يتوجه من الحيرة مسافة 800 كم إلى الرباط، وهو ما لم يتوقعه الجيش الفارسي على الإطلاق، وباغتهم خالد في أماكنهم.
6- المهارة القتالية:
لا شك أننا نذكر قتل هرمز، وكان أحد عظماء الفرس في القتال، ولكن خالدًا (رضي الله عنة)بارزه في موقعة كاظمة في بداية المعركة، وقام هرمز بخيانة حيث جمع بعض حاميته لتحاصر خالدًا (رضي الله عنة) ولم يكن هذا من عهد الجيوش في القتال، بل كان السائد أن يبارز رجل رجلاً، ثم تبدأ الحرب بعد ذلك، ولكن خالدًا (رضي الله عنة)قتل هرمز، وكان هذا شيئًا عجيبًا حيث كان هرمز محاطًا بحامية كاملة من الجيش الفارسي، وكان خالد الوحيد في جيشه ومعه الزبير بن العوام اللذان يستطيعان القتال بسيفين معًا.
وكانت المهارة القتالية أيضًا عندما قابل خالدٌ (رضي الله عنة)عُقَّة بن أبي عُقَّة، وطلب عُقّة المبارزة فخرج إليه خالد وأطاح بالسيف من يده وحمله من على فرسه، وأتى به إلى جيش المسلمين، وكان هذا أيضًا من الأمور العجيبة، فقد كان عُقة هو أشجع جيشه وأقواهم؛ ومن ثَمَّ خرج يطلب المبارزة، ولكن خالدًا(رضي الله عنة) أسره ببساطة، وكان هذا الأمر من مهاراته القتالية.
ومن مفاجآت فتح الأنبار أيضًا فَقْأُ ألف عين من عيون أهل الأنبار، فكانت مهارة عالية، وأخذ كامل بالأسباب.
7- القدرة على تشتيت العدو:
وفي هذا الإطار نذكر أن خالدًا(رضي الله عنة) -وبتوجيه من أبي بكر الصديق(رضي الله عنة) كان يفكر دائمًا في حصار الفرس وقتالهم من أكثر من جهة، وكان هذا الأمر -أيضًا- من الأشياء الغريبة على أهل فارس، ورأيناه في بداية فتح العراق من حيث إحاطتها من الشمال والجنوب بسيدنا خالد وسيدنا عياض، والالتقاء في الحيرة، وكذلك سقط حصن دومة الجندل تحت تأثير الهجمات الشمالية والجنوبية، وهوجمت كذلك المصيخ والثني والزميل من ثلاث جهات مختلفة؛ جيش خالد بن الوليد(رضي الله عنة)، وجيش القعقاع بن عمرو، وجيش أبي ليلى بن فدكي السعدي، وانتصرت الجيوش الإسلامية في المواقع الثلاثة، فلم يكن في ظن الجيش الفارسي أن تأتيه الجيوش من الجهات الثلاث.
8- استخدام عنصر المبادأة:
كان خالد بن الوليد (رضي الله عنة) يعتمد مبدأ المبادأة في معاركه كلها، وهو أن يبدأ عدوه بالهجوم ولا ينتظر أن يبدأ العدوُّ بالهجوم. يقول الخبراء العسكريون: إن الذي يمتلك الضربة الأولى يمتلك ما يقرب من 50 % من النصر، وحسبما تكون قوة هذه الضربة تتضاعف نسبة النصر، لكنها لا تقل غالبًا عن 50 %. وهذا ما كان يحدث الهزيمة في صفوف الفارسيين، فكان خالد بن الوليد (رضي الله عنة)في كل حروبه تقريبًا هو الذي يبدأ القتال، وعلى سبيل المثال موقعة المذار وعبوره شط العرب، وموقعة الولجة وانسحابه من المذار كلية إلى الولجة، وموقعة عين التمر، وغيرها من المعارك، فكانت هذه بعض المفاجآت التي حققها المسلمون في حروبهم مع الفرس.
9- الردّ السريع من المسلمين:
عندما فتح ابنُ آزاذبه الأنهار الفرعية في "المقرّ" وسدَّ نهر الفرات فجنحت سفن خالد بن الوليد (رضي الله عنة)في المياه المتجهة من أَمْغِيشيا إلى الحيرة، فتوجه خالد t سريعًا إلى منطقة المقرّ ومعه فرقة من جيشه، وقاتل ابن آزاذبه وقتله وانتصر على جيشه، وسفن خالد(رضي الله عنة)ما زالت بالنهر، وفتح نهر الفرات وسدَّ الأنهار الفرعية، وتسير السفن الإسلامية مرة أخرى من أَمْغِيشيا إلى الحيرة، فكان لهذا الرد السريع أثره على آزاذبه، فانسحب سريعًا من الحيرة وتركها لأهلها.
أيضًا نرى ردَّ الفعل السريع للقعقاع بن عمرو في "حُصَيِّد والخنافس" وكانتا مهددتين بجيشين من الفرس، وكان الجيش الإسلامي بكامله موجودًا في دومة الجندل، فأرسل عروة بن الجعد إلى "الخنافس"، وأرسل أبا ليلى بن فدكي السعدي إلى "حصيد"، ولم ينتظر قدوم خالد (رضي الله عنة)واستشارته في الأمر، وكان هذا مما أحبط الفكرة الفارسية في الهجوم على "الحصيد والخنافس".
10- تأمين الحملات الحربية الإسلامية:
كان هذا أيضًا مما يميّز حروب خالد بن الوليد (رضي الله عنة)، فكان لكل جيش من جيوشه مقدمة تكتشف الطريق وتحدث الرعب في قلوب الفرس، وكان لهذه المقدمة من القوة والمهارة ما يزلزل الجيوش الفارسية، وكان على رأس هذه المقدمة دائمًا المثنى بن حارثة t، وكان اختياره من حكمة سيدنا خالد(رضي الله عنة) ؛ لأن المثنى هو أعلم المسلمين بأرض فارس والعراق.
كما كان خالد (رضي الله عنة)يؤمِّن المؤخرة أيضًا، ورأيناه عندما ترك الأُبلَّة وتوجه إلى فتح الحيرة ترك على الأبلّة حامية من ثلاث جهات نظرًا لأهميتها، وترك سويد بن مقرّن في الحفير للسيطرة على المنطقة الجنوبية، وظل سويد في مكانه حتى غادر خالد بن الوليد (رضي الله عنة)العراق إلى الشام، وظل في مكانه يحمي هذه المنطقة.
وكذلك كان يؤمِّن جيشه، فرأيناه -عندما شعر أن الجناح الأيمن مهدد من قِبَل جيش "قارن" الذي يأتي من المدائن ناحية "المذار"- يعبر شط العرب ويتقابل مع جيش قارن في شرق دجلة، فأمَّن بذلك الجناح الأيمن للجيش الإسلامي، وتقدم بعد ذلك إلى الحيرة وهو آمن على جناحه الأيمن.
حقيقةً هذا تخطيط عسكري في غاية الروعة، ولا يُتخيَّل وجود هذا التخطيط إلا بوجود إمكانيات كبيرة من أقمار صناعية، وخرائط دقيقة، ورصد دائم ودقيق لتحركات الجيش المعادي له.
كذلك كانت المخابرات الإسلامية في منتهى القوة، وكانت بقيادة المثنى بن حارثة (رضي الله عنة)، وكانت ترصد بدقة تحركات الفرس في كل المواقع التي رأيناها، ولم تأتِ موقعة فوجئ فيها المسلمون بجيش فارس، وبهذا استطاع المسلمون إعداد أنفسهم بشكل جيد، وأخذ أماكن محددة للمعارك قبل أن يصل الفرس إلى هذه الأماكن.
والأعجب من هذا الأمر أن ما كان يحدث في داخل البلاط الملكي الفارسي يعرفه الجيش الإسلامي، وكان هذا يأتي عن طريق بعض الفرس الذين أسلموا مع بداية المعارك مع الفرس، ولذكاء خالد والمثنى -رضي الله عنهما- وحكمتهما وحسن تصرفهما كانا يرسلان هؤلاء المسلمين -وهم يخفون إسلامهم- إلى فارس، فيأتونهم بالأخبار الدقيقة، وتعرف قيادة الجيش الإسلامي من خلالهم ما يحدث داخل حصون فارس، وفيم يفكرون؟ ومدى رعبهم وفزعهم من جيوش المسلمين، ومَن القادة الذين سوف يرسلونهم على رأس الجيوش، وقد استفاد المسلمون بعد ذلك من هؤلاء المسلمين الموجودين داخل البلاط الفارسي.
ومما يدل على قوة المخابرات ودقتها في الحروب الفارسية القبض على أكيدر بن عبد الملك، وكان زعيمًا للعرب في موقعة دومة الجندل، ونذكر أنه اختلف مع الجودي بن ربيعة القائد الآخر للعرب في دومة الجندل على قتال سيدنا خالد بن الوليد(رضي الله عنة)، وقال أكيدر: لا نصبر على قتال خالد. وترك دومة الجندل وهرب في الصحراء في اتجاه الشمال حتى يهرب من حرب خالد بن الوليد(رضي الله عنة)، ولكن عيون سيدنا خالد بن الوليد ومخابراته استطاعت أن تُلقِي القبض على أكيدر بن عبد الملك في الصحراء قبل أن يصل إلى دومة الجندل، وأتى به القعقاع بن عمرو وقتله خالد بن الوليد؛ لأنه كان قد غدر بالمسلمين وحاربهم في دومة الجندل بعد أن أعطى رسول الله (صلى الله علية وسلم) -قبل وفاته- عهدًا ألا يقاتل المسلمين.
أدرك خالد بن الوليد(رضي الله عنة) -أيضًا- تحركات الفرس إلى الولجة بعد موقعة المذار.
فكل هذه الأمور توضح لنا أن الجيش الإسلامى أخذ بالأسباب بصورة عظيمة جدًّا في حروبه مع فارس، ولم يترك الأمر إلى الاعتماد على الله فقط دون الأخذ بالأسباب، فكان معتمدًا على الله ، ولكنه بذل أيضًا من الأسباب الكثير، وتحقق له النصر حتى الآن في كل المعارك.
كان الموقف بعد خروج خالد بن الوليد(رضي الله عنة) من العراق وتوجهه إلى الشام موقفًا صعبًا للغاية، وسوف نبدأ الآن في الحديث عن المرحلة التي أعقبت خروج خالد بن الوليد، وبقاء تسعة آلاف مقاتل من المسلمين بقيادة المثنى بن حارثة (رضي الله عنة)في أرض العراق في مواجهة الجيوش الفارسية العظيمة
موقعة بابل ونتائجها....
وبدأ الجيش الفارسي يتحرك من المدائن في اتجاه سيدنا المثنى بن حارثة(رضي الله عنة)، وقد استفاد المثنى بن حارثة(رضي الله عنة) من فترة وجود سيدنا خالد بن الوليد(رضي الله عنة) وتعلَّم منه كثيرًا، فلم ينتظر في الحيرة حتى يأتيه جيش (هرمز جاذويه)، ولكنه أسرع ليقابله في "بابل"، وهي منطقة قريبة جدًّا من المدائن، وكان تحرّك سيدنا المثنى إلى بابل له مغزى آخر، فقد كانت هذه المنطقة تُسمى بانِقيا وباروسما، وكانت قد صالحت المسلمين على دفع مليوني درهم في كل سنة، على أن يوفر المسلمون لهم الحماية ممن يعتدي عليهم سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، فكان لا بُدَّ للمثنى بن حارثة أن يقاتل في هذا المكان حتى يحمي هذه المنطقة التي تدفع الجزية للمسلمين. وقد وصل المثنى بن حارثة بجيشه إلى هذه المنطقة قبل أن يصلها هرمز جاذويه، وانتظر الجيش الفارسي حتى جاء وفي مقدمته الفيل. ونستطيع أن نقول: إن الحرب في هذه المعركة كانت سجالاً، فقد كان الجيشان متقاربين في القوة؛ تسعة آلاف من المسلمين وعشرة آلاف من الفرس، ومع ذلك كان الجيش الفارسي -في البداية- له بعض الغلبة على الجيش المسلم بسبب وجود الفيل الذي كان يتقدم داخل صفوف المسلمين؛ فيحدث نوعًا من الارتباك، ولا أحد يستطيع أن يقف أمامه أو يتعامل معه، وعندما رأى المثنى بن حارثة ذلك انتدب من المسلمين فرقة للتطوع لقتل هذا الفيل، وخرجت معه فرقة من عظماء المسلمين وتقدّموا ناحية الفيل، ومن خلف ظهره قطعوا الأحزمة التي يجلس عليها من يقود الفيل، فوقع قائد الفيل وقُتِل، وكان المثنى (رضي الله عنة) قد سأل عن مقتل الفيل فقالوا: يُقْتَلُ من خرطومه. فقتلوه، وبعد مقتل الفيل بدأت الجيوش الفارسية تتقهقر وتُهزَم، وانتصر المسلمون في موقعة بابل التي كانت في ربيع الأول سنة 13هـ، وذلك بعد أقل من 25 يومًا من غياب خالد بن الوليد (رضي الله عنة)، فكان ذلك اطمئنانًا لنفوس الجند أن النصر يأتي من عند الله ، وليس من عند أشخاص بعينهم، ومتى رضي الله تعالى عن فرقة، فسوف يتم لها النصر، حتى وإن غاب عنها خالد بن الوليد (رضي الله عنة).
وقد استفاد المثنى (رضي الله عنة) من خالد بن الوليد(رضي الله عنة) كثيرًا، فأرسل في إثر الجيش المنهزم -بعدما فرَّ منهم الكثير- بعض الفرق التي تطارد الفارِّين، ووصلت هذه الفرق حتى مشارف المدائن؛ وذلك يحول بين تجمع الجيش وهجومه مرة أخرى على المسلمين، فالمسافة بين بابل والمدائن تقرب من 72 كم، ومن المدائن إلى الحيرة حوالي 150 كم، فتكون بابل أقرب إلى المدائن من الحيرة.
انتصار المسلمون في موقعة النمارق
يصل جيش عبيد بن مسعود الثقفي إلى منطقة تُسمى خِفَّان في 3 من شعبان سنة 13هـ، ونلاحظ أن أبا بكر (رضي الله عنة) تُوفِّي في جمادى الآخرة، ثم مرَّ شهر رجب ووصل الجيش في 3 من شعبان وهي فترة طويلة، فلم تكن جيوش خالد بن الوليد تقطع هذه المسافات في هذا الوقت الطويل، ووضع المثنى (رضي الله عنة)نفسه تحت إمرة أبي عبيد بن مسعود الثقفي، وبدأ أبو عبيد بن مسعود ينظم الجيوش لحرب الفرس، فكانت موقعة النمارق وأتت الجيوش الفارسية بقيادة جابان وهو أول من ثار في المنطقة وتوجه بجيشه مرة أخرى لمقابلة المسلمين بعد أن هُزم في موقعة أُلَّيْس، واتجه إليه أبو عبيد بن مسعود(رضي الله عنة)، والتقى الجيشان في موقعة شديدة وهي أول موقعة لأبي عبيد بن مسعود في منطقة العراق، وكانت في 7 من شعبان سنة 13هـ، وأبلى الجيش الإسلامي وقائدُه أبو عبيد (رضي الله عنة)بلاءً حسنًا في هذه الموقعة، وتم النصر للمسلمين، وأُسِرَ جابان، ولكنه مكر بأحد المسلمين وخدعه بأنه سيعطيه كذا وكذا إذا أطلقه، ولم يكن يعرف هذا الرجل أن هذا هو (جابان) أمير فارس في الجيش فأمَّنه، وعندما علم أبو عبيد(رضي الله عنة) أن هذا الرجل هو جابان قال: لا نخون عهدًا أعطاه أحدُ المسلمين. فأطلق سراحه وكان في يده أن يقتله......